الرؤية الإسلامية فى البيئة لإنقاذ كوكب الأرض
كتبت نورهان صلاح الدين:
أصبحت البيئة اليوم هى أول إهتمام البشر فى كافة أنحاء العالم حكومات وشعوب نظراً للخلل الذى أحدثته الحضارة الحديثة من دمار وفساد وعلى المستوى المادي من تلوث الماء والهواء والغذاء والأرض أو على المستوى المعنوى من فساد القيم الأخلاقية والمجتمعية والثقافية وضياع لقيم العدل والجمال ومسخ العنصر البشري وفقدان التنوع الحيوي مما يهدد بقاء الانسان على كوكب الارض .، وأدركت البشرية جميعاً بأن التلوث يهدد الإنسان بالفناء فإن لم نقضى على التلوث سيقضى علينا التلوث ، فقد إكتشف الإنسان فى ظل التقدم التكنولوجي وإبتكاراته الصناعية هول المأساه التى تهدد حاضره ومستقبل الأجيال القادمة فقد أصبحت التهديدات البيئية والمشكلات الطبيعية مثل تلوث الهواء ، والماء ، وإرتفاع درجات الحرارة وإستنزاف طبقة الأوزون وإنقراض الكائنات وإنجراف التربة وإختفاء الغابات وتصحر الأراضي والتى أدت إلى الخلل فى النظام البيئي القائم على التوازن والإعتدال وأدرك الإنسان بعقله حجم الخلل القائم بينه وبين بيئته التي تشكل إطار حياته من غذاء ومأوى وعلاقات إنسانية وعادات وقيم وأخلاق .
وهذا ما دفع حكماء وعلماء ورؤساء العالم إلى إصدار وثيقة الأرض فى قمة الأرض بريودي جانيرو 1992 ، وقد ورد فى كتاب الله دستور شامل للبيئة فى آية معجزة تبين كمال ودقة اللفظ القرآني حيث قال الله تعالى " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { الروم : 41 }
الرؤية الإسلامية للبيئة لإنقاذ كوكب الأرض ووحدة شعوب العالم .
جاء الإسلام بالوثيقة الأولى للحفاظ على النسق العام للكون وإدارة الموارد البيئية الطبيعية من خلال مفاهيم التوحيد والخلافة والعمارة والتسخير التى تأصل النظرة الإنسانية للكون والإنسان والحياة وعلاقة الإنسان بالله والبيئة بمفهومها الشامل .
فأركان البيئة فى الإسلام ترتكز على المحاور الآتية .
أولاً : التوحيد الخالص لله تعالى . " فعبادة الله هى سر الخلق "
فهو الخالق البارىء المصور لا شريك له خلق كل شىء بحكمة وقدر وتوازن وهو الذى يمسك السماء والأرض من أن تزولا .قال تعالى " اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ{ البقرة : 254 }
وقد خلقت البيئة مكلفه بالسجود لله وتسبيحه مهيأة لتحقيق مصلحة الإنسان وتوفير إحتياجاته فالحفاظ على البيئة بقتضي التكامل مع كل مكوناتها وإلا يحدث خلل فى الكون وهذا يتطلب ألا يفسد الإنسان فى الكون وينشر الخير والصلاح بمفهومه الشامل وأن يعمر الأرض بإحياء وإستصلاح أراضيها .
ثانياً : الخلافة وعمارة الأرض هى الغاية من الخلق كإطار وظائفى لإدارة الإنسان للكون على أساس علمي
قال تعالى " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { البقرة : 30 }
قال تعالى : " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ { التين :4 }
والتقويم يعني الإعتدال والإستواء والجمال ليس فى الخلق بل هو فى الخلق البيئي فهو الخليفة المكلف بحماية ورعاية كل المخلوقات والكائنات فهو سيد فى هذا الكون وليس سيداً عليه بل هو مسئول عن تأمين وسلامة الحياة المشتركة مع سائر الكائنات وهذه المسئولية هى أعظم مظاهر التكريم الإلهي للإنسان .
قال تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً { الإسراء : 70 }
فنظرة الإسلام إلى البيئة شاملة التصوير الكلى للكون والإنسان والحياة وإرتباطهما جميعاً بالله سبحانه وتعالى " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لا عبين .
فالعبادة بمفهومها الواسع هو عمارة الأرض فهى المهمة الوحيدة للإنسان بالعلم والإيمان والعمل حتى يصل الإنسان إلى شاطىء الأمان حيث موطنه الأصلى جنة الخلود .
فهذه هى المهمة العظمي والدور الجليل للإنسان ولم يخلق الله الأرض للنهب والتدمير والإفساد .
وأسس هذا التعمير البيئي الرشيد هو النظافة والتطهير و المحافظة على صحة الإنسان ومعالجة المخلفات والتشجير والتخضير لتنقية الهواء والحفاظ على تنوع الكائنات فهذه هى الركائز الأساسية للعمران البيئي المستدام فى الإسلام .
ثالثاً : البيئة المعنوية ( علاقة الإنسان الإجتماعية وفق القيم والأخلاق والدين )
لا تقف البيئة فى الإسلام عند المكونات المادية وشكلها وإنما تجعلها وسيلة لبلوغ الهدف الأسمى وهو تزكية النفس وتطهيرها وإعادة صياغتها على نحو خالى من العقد والإنفصامات .
فالإسلام قدم منظومة كاملة للكون على أساس عقيدة راسخة فى سلوكيات الحفاظ على جميع المخلوقات اصغرها وأعظمها مراعاة إلى عظمة موجدها ومدبرها فقيمتها العليا نابعة من تعبدها لله بالتسبيح والسجود .
فلم تحقق المعاهدات الدولية العديدة وقمة الأرض الأولى والثانية أهدافها حتى الأن بل إزدات التحديات البيئية وتدهورت النظم الأيكولوجية نظراً لإغفال القيم والمبادىء والأخلاقيات الإيمانية التى تجعل من الضمير هو الرقيب الذى يحترم القانون الإلهى الداعي إلى رحمة الناس أجمعين قال تعالى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله غفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون " النحل .
رابعاً : عوامل نجاح مهمة الخلافة " التسخير "
هو الأدوات المساعدة للخليفة للقيام بعملها هو أن الكون مسخر له مصداقاً لقوله تعالى " وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لأيات لقوم يعقلون " { النحل : 12 }
خامساً : الأمانة هى مسئولية العنصر البشري.
آدم عليه السلام وذريته هم الحاملين للأمانة والمسئولين عن إدارة الكون والمحافظة على الكائنات وتحقيق السعادة بمفهومها الشامل فى ظل التوجيهات والضمانات الألهية بالحفاظ على البيئة الطبيعية بدلاً من عداوتها، فالأمانة هو التناغم معها والحفاظ عليها من أجل إستدامها كطريق إلى جنة الرضوان فإفساد البيئة معنوياً ومادياً
فالمحافظة على البيئة داخله فى مقاصد الشريعة الخمسة وهى حفظ الدين والنفس النسل والعقل والمال فإفساد البيئة إضاعة لمقاصد الشريعة .
سادساً : الأرض مقدسة وطاهرة وحمايتها مسئولية جميع الناس .
فحقيقة إستخلاف الإنسان أنه خلق من تراب الأرض .
قال تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ " { الحج : 5}
فحماية الأرض والتعامل السليم معها وحمايتها بمقتضى الإستخلاف بأننا خلقنا منها وسنعود إليها ومنها نخرج مرة أخرى ،فقد جعلها الله لنا مسجداً وطهورا ومن هنا حب المسلم العميق لكوكب الأرض فكلنا مسئولين عن كوكب الأرض ولا بد أن يكون حمايتها وتعميرها هو أسلوب حياتنا .
سابعاً : قيمة العدل والتوازن البيئي .
فقد ضاع التوازن بين الطموح الإنساني علمياً وتكنولوجياً وإقتصادياً وبين حماية البيئة وسلامتها وتحقيق مفاهيم إستدامتها فالرؤية الإسلامية للبيئة هى التى يتصالح فيها الفكر مع الواقع مع الإيمان بالله والتوحيد الخالص فهما أساس لبناء حضارة خالدة يتحقق فيها التوازن الرباني الدقيق المحكم بين كل عناصر البيئة ومكوناتها من ماء وهواء وأرض وطاقة وكائنات ... والتناغم بينهما لإستمرار الأخذ والعطاء وإلا فهى حرب ضد الحياة والتنمية تهدد بقاء الإنسان على كوكب الأرض وهو الخليفة المسئول عن حمايتها .
فلابد من التعامل مع الكون وكل الكائنات بمفهوم العدل وعدم إفساد النظم البيئية فحماية كل الكائنات وإحترامها والحفاظ على طبيعتها وعدم الإخلال بها هو أساس نظام الكون وتوازن البيئة على أساس عادل .
ثامناً : التفكر والتدبر فى آيات الله الكونية من أهم العبادات.
الكون ( البيئة) آية من آيات الله تستوجب من الإنسان التفكر والتعقل والتدبر ، فالذكر والفكر هما ميزان الشرع ، والتدبر فى آيات الله فى الأفاق والنفس هو الطريق إلى الحق والعدل وتحقيق الإدارة السليمة المستدامة وهو يقوى الإيمان وينمي المعرفة ،و الشكر على النعم التى لا تعد ولا تحصى وتنمية جمالها والإستمتاع بها فكل شىء فى البيئة( الكون) يظهر بديع صنع الله .
قال تعالى : وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { الجاثية :13
تاسعاً جميع مخلوقات الله من ماء .
فهو سر الخلق فالماء هو مادة الخلق الأولى وهوأساس لجميع النظم البيئية وخلق الكو ن بما فيه من سماء وأرض ومخلوقات فبه بدأت الحياة وستنتهى بالصراع عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم " الله عز وجل خلق كل شىء من ماء
عاشراً : أخلاقيات الرسول عليه الصلاة والسلام فى التعامل مع البيئة .
فالخطاب القرآني والهدى النبوى أولى اهتمام كبير لكل عناصر الكون الرباني من ( إنسان – حيوان – نبات...)
وقام بوضع الضوابط للحفاظ على النظم البيئية الربانية والحفاظ على النسق الجمالي وتشريعه لأحكام الحلال والحرام وما يترتب عليه من الطاعة أو العصيان لضبط سلوك العنصر البشري مع سائر الكائنات للحفاظ على الصحة الجمالية والنسق العام للكون .
قال تعالى " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ " { الانعام : 38 }
وفي هدى رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام القدوة والمثل الاعلى فى تحقيق الانسجام والعلاقة الحميمة مع الكون بكل مكوناته فهو الرحمة المهداة لعالم النبات والحيوان والانس والجن بل لكل العوالم .
وكان فى فتح مكة رسالة للعالم للبشرية بأن الإسلام هو دين السلام والبيئة والعفو والرحمة والأمانة فقد دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً متواضعاً خاشعاً على دابته البيضاء تكاد لحيته تمس رحله ومع كتيبته الخضراء كرمز للسلام والبيئة من الفتية تقدر بعشرة ألاف من شباب المهاجرين والانصار وقد أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه هو يوم المرحمة تقديسا للحرمات و أمر الجيش بتغيير خط سيره حتى لا يفزع الكلبة أثناء ولادتها والتى كانت فى طريق الجيش بل أمر المسلمين أن يدخلوا مكة حريصين على عد م القتال بروح المودة والرحمة والمسالمة رافضاً مسلك سعد بن عبادة من الزهو والإفتخار والذى كان يحمل الراية ويقول اليوم يوم الملحمة فأخذ الراية منه وأعطاها عليه الصلاة والسلام لسيدنا على ابن ابى طالب معلناً أنه يوم المرحمة فى تواضع قائلاً بأنه لا عيش إلا عيش الأخرة مردداً قوله تعالى " {الفتح}
كما سلم مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بعد ما أنتزع منه عنوة ليعلن أنه يوم بر ووفاء وأصدر العفو العام بمقولته الشهيرة لأعدائه الذين آذووه وأخرجوه من مكة وهى أقدس وأحب بلاد الله إليه " إذهبوا فأنتم الطلقاء "
فحقق بذلك فتح للإنسانية لأفاق الخير والحق وتحريرها من عبودية الأوثان والأصنام وأنه لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى . وكان سلوك الرسول عليه السلام وأخلاقياته مع البيئة هو الذى دفع العالمة الهولندية " فرنشيسكا دوشاتيل " إلى الإعلان بأن محمد عليه الصلاة والسلام رائد البيئة ودعت كل شعوب العالم من يهود ومجوس ونصارى وعلمانين وملحدين إلى إتباع هديه لإنقاذ كوكب الأرض .وها هو المستشار الامريكي لشئون البيئة لمدينة نيويورك يصدر كتابه عن الإسلام " الدين الأخضر " فهو دين بيئي يحافظ على الطبيعة برؤية شاملة قائمة على التوحيد الخالص لله تعالى وإحترام كل الكائنات وتقديس الأرض كمسجد وطهور ومسئولية كل الناس على حمايتها .
فهذه هى أهم عشرة ركائز لرسالة الإسلام من أجل حماية كوكب الأرض من الفناء والدمار وإنقاذاً لحياة الإنسان وضمان إستدامة الموارد اللازمة لضمان وبقاء الأجيال الحاضرة والمستقبلة وهى الطريق لعودة الإنسان إلى موطنه الأصلى جنة الخلد
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا عيش إلا عيش الأخرة "
جاء ذلك خلال ملتقى الشباب الذى حاضر فيه الخبير البيئى مجدى الشرقاوى ورئيس مجلس ادارة جمعية البيئة العربية